عشرات العقبات والعراقيل تقف على طرف طريق الإعلاميين في موريتانيا.
فهم يتحركون داخل حقل ألغام قانونية، وفي بيئة لا تقتنع كثيرا بأن "الصحفي حر في حدود القانون يقول ما يشاء وليس علينا أن نسأله لماذا ينتقدنا وإنما علينا أن نسأل أنفسنا لماذا يحب أن نفعل ما ننتقد عليه".
لم تكد سنة 2006 تشارف على نهايتها حتى كاد عدد التراخيص الصحفية التي أصدرتها وزارات الداخلية والإعلام والعدل في موريتانيا قد تجاوزت 600 ترخيص صحفي.
هذا يعني، افتراضا، وجود 600 صحيفة ومجلة ما بين يومية وشهرية وأسبوعية في بلد لا يتجاوز سكانه الثلاثة ملايين نسمة، ولا تتجاوز مساحة توزيع الصحف مساحة العاصمة نواكشوط.
لكن هذا العدد الهائل من التراخيص وتلك الجيوش الجرارة من الصحفيين لم تكن أكثر من صحف "حقائب" وصحفيين مع "وقف التنفيذ".
الحقيقة ليست سوى انه لا يوجد في الساحة الإعلامية في موريتانيا إلا عدد قليل من الصحف المنتظمة الصدور والتي لا تتجاوز في الغالب العشرين صحيفة (ما بين يومية وأسبوعية ناطقة باللغتين العربية والفرنسية).
غير أن هذه الصحف لم تجد الساحة خالية من المنافسين، كما أنها لم تجد كل الظروف مؤاتية للعمل الصحفي.
مع سقوط نظام العقيد معاوية ولد الطايع وبزوغ شمس جديدة للحرية والاستقرار سقطت كثير من مطبات قانون الإعلام، من أبرزها المادة 11 "السيئة الصيت" التي ظلت سيفا مشهرا على رقاب الصحفيين الموريتانيين.
تلك المادة أدت إلى مصادرة عدد كبير من الصحف الموريتانية، طوال فترة العهد الديمقراطي الذي أعلن عنه ذاك العقيد.
ومع سقوط هذا الاخير سقطت المادة معه، وتنفس الإعلام الموريتاني الصعداء من جديد، خصوصا أن نظام الرقابة الصارم في عهده لم يعد يعمل به كثيرا.
كما وأن تبعية الصحافة انتقلت من وزارة الداخلية الموريتانية إلى النيابة العامة ووزارة العدل،الأمر الذي فتح مجالا جديدا أمام حرية الصحافة.
لكن الصحفيين الموريتانيين الذين قدروا عاليا هذا التطور في حرية الإعلام الموريتاني فوجئوا بسيف جديد ينتظرهم وهو سيف المحاكمات، التي ظلت طوال الفترة الماضية الهاجس الذي يرعبهم جميعا ويسيطر على عناوين عدد من الأخبار والتغطيات الإعلامية. هذه المحاكمات جاءت على خلفية نشر معلومات وتحقيقات تمس بعض الشخصيات السياسية والمالية الكبيرة في البلد، والتي جرى اتهام بعضها بالتورط في قضايا المخدرات.
أسبوع واحد كان كفيلا بأن يواجه أكثر من 5 صحفيين موريتانيين دعوى قضائية من رئيس حزب سياسي معارض وهو الدكتور اشبيه ولد الشيخ ماء العينين، رئيس حزب الجبهة الشعبية في موريتانيا والذي تم توقيفه عدة أيام على خلفية فضيحة المخدرات الذائعة الصيت والتي لا تزال أكبر مشكل أمني يواجه السلطة الموريتانية.
بدأت القصة حين بادر ولد الشيخ ماء العينين برفع دعوى قضائية ضد صحيفتي "السفير والفجر"، الناطقتين بالعربية، إضافة إلى صحيفة "لا تربين" الناطقة بالفرنسية، كما دعوى ضد عدد من المواقع الإخبارية.
وقد تم استدعاء عدد من رؤساء تحرير الصحف الموريتانية إلى المثول أمام مفوضيات شرطة التحقيق الموريتانية،ليتوصل الطرفان في الأخير إلى تسوية بموجبها سحب السياسي البارز دعواه القضائية ضد الصحافة المستقلة، الصحافة التي لم تتوان في تذكير ولد الشيخ ماء العينين بوقوفها معه أثناء اعتقاله لمدة سنتين في سجن "لعيون" بتهمة العمل على قلب نظام الحكم.
آنذاك اعتبرت الخطوة التي قام بها ذلك السياسي مؤشرات خطيرا على تراجع هامش مساحة حرية الإعلام، مؤكدة أن ذلك لن يحول بينها وبين مواصلة طريقها في سبيل الوصول إلى مصادر الخبر ونقله بنزاهة وأمانة إلى المتلقي.
حراس السلطة الرابعة أو أبطال مهنة المتاعب كانوا على موعد آخر مع حلقات أخرى من مسلسل المحاكمات والاعتقالات.
امتدت يد المحاكمة من جديد إلى عنق الصحفي "عبد الفتاح ولد اعبيدنا" المدير الناشر لصحيفة "الأقصى" اليومية في موريتانيا وذلك بعد نشره ما اعتبره معلومات تتعلق "بتورط مزعوم لرجل الأعمال والملياردير محمد ولد بوعماتو في تجارة المخدرات وضلوعه في ما يعرف بفضيحة طائرة نواذيبو" إضافة إلى سلسلة من المواضيع المتعلقة بمؤسسات المليادردير المذكور.
هذا الأمر دفع هذا الأخير إلى رفع شكوى قضائية ضد الإعلامي عبد الفتاح ولد اعبيدنا مستعينا في ذلك بلفيف كبير من أبرز المحامين الموريتانيين.
لتتنهي المحاكمة بعد الكثير من الجلسات القضائية بحكم نافذ على ولد اعبيدنا بالسجن لمدة عام وبغرامة مالية تقدر بمليون دولار أمريكي أي ما يقدر بحوالي 300 مليون أوقية.
لكن عبد الفتاح ولد اعبيدنا الذي تعرض للسجن عدة أيام على ذمة التحقيق، لم يستطع تقبل الحكم الصادر ضده.
فآثر الفرار قبل صدور الحكم بساعات قليلة متوجها إلى دبي في الإمارات العربية المتحدة حيث صدر الحكم غيابيا عليه.
ومع بمحاكمة ولد اعبيدنا انتهت حلقة مثيرة جدا من حلقات محاكمة الصحفيين في موريتانيا.
لكن تلك النهاية لم توقف الجدل الدائر حول مشاكل الإعلام في موريتانيا.
وقد أصدرت منظمة " مراسلون بلا حدود " بيانا صحفيا نددت فيه بالحكم الصادر على ولد اعبيدنا معتبرة أنه يسير في طريق تكميم الصحفيين ومنعهم من ممارسة أدوارهم ومهامهم الإعلامية.
حلقة أخرى في سلسلة المحاكمات القضائية للصحفيين انفجرت مع الدعوى التي رفعتها السيدة "خت بنت البخاري" حرم الرئيس الموريتاني "سيدي ولد الشيخ عبد الله"، ضد رئيس تحرير يومية البديل الثالث سيد "محمد ولد أبه"، وذلك على خلفية نشره لأخبار ومعلومات تتعلق بما اعتبره تزايدا ملحوظا لنفوذ السيدة داخل أجهزة الدولة الموريتانية.
وقد اعتبر الصحافي أن هذه الأخيرة قامت بالتدخل في عمل بعض المسؤولين والوزراء،الأمر الذي أثار حفيظة بنت البخاري التي بادرت إلى رفع دعوى قضائية ضد يومية "البديل الثالث" وضد رئيس تحريرها.
وقد تم التوصل الى تسوية بين الطرفين بموجبها أعلنت هذه الأخيرة عن سحب دعواها القضائية مقابل اعتذار مكتوب من الصحيفة المذكورة.
لكن الامر انفجر مرة أخرى عندما استدعي الصحافي للمثول أمام المحكمة من جديد في قضية دعوى حرم رئيس الجمهورية.
وقد تحدثت مصادر إعلامية وحقوقية أن ضغوطا شديدة مورست على حرم رئيس الجمهورية حتى تتراجع للمرة الثانية عن مقاضاة الصحفي المذكور.
إلى جانب كل تلك المحاكمات تراكمت عشرات الحوادث اليومية مثل التهديد بالقتل أو الاعتداء البدني على الصحافة مثل ماحصل مع الصحفي محمد ولد المقداد حين اعتدى عليه حرس رئيس الوزراء الموريتاني عندما كان يقوم بتصوير مشاهد من زيارة الوزير الأول لمؤسسة الإذاعة في موريتانيا قبل حوالي ثلاثة أشهر.
عشرات المطبات والعراقيل لا تزال تقف أمام الصحافة الموريتانية وتعيق مسيرتها التقدمية وإن كان سيف المحاكمات أكثرها حدة وحضورا لحد الآن.