حينما التقيت إبراهيم عيسى، رئيس تحرير صحيفة "الدستور" اليومية المستقلة، لأول مرة، سألته كيف لا يزال حرا طليقا، فعيسى معروف بمقالاته اللاذعة التي تشوي جلدة الرئيس حسني مبارك وأسرته – بالأسم الصريح وليس بصيغة الهمز واللمز التي تعتبر أسلم الطرق لإنتقاد القادة في العالم العربي.
وبدلا من أن يجيب على سؤالي، أخرج عيسى رسالة بعثها إليه سجين يخبره في معرضها أن صحيفة "الدستور" هي أكثر الصحف شعبية في السجن – ويا لسرور عيسى بذلك- وليستعجله الردّ على سلسلة من الأسئلة التي طرحها عليه.
وقال لي عيسى في كانون الأول/ديسمبر 2005، بعد أن إزداد وعيا بأن الحكومة المصرية قد تضيق ذرعا بسرعة: "أنا أفكر في الكتابة إليه لأقول له بأنني قد أجيبه على أسئلته بنفسي شخصيا في السجن قريبا جدا".
وضاقت الحكومة المصرية ذرعا بالفعل وفتحت محضرا قضائيا في تشرين الأول/أكتوبر ضد عيسى بتهمة نقل إشاعات حول تدهور صحّة مبارك يمكن أن يعاقب عليها بالحبس مدة ثلاث سنوات.
وكانت القضية آخر تجليّات تيار يشير إلى أن المسألة لا تتعلق بصحفيّ فردي تستهدفه الحكومة، بل إنما تتعلق بمفهوم الصحافة نفسه. فخلال الشهر الماضي وحده، أصدرت المحاكم المصرية أحكاما بالحبس على ما لا يقل عن سبعة صحفيين بتهم تتراوح بين نقل تصريحات وزير العدل المصري بصورة غير مضبوطة ونشر إشاعات حول صحة مبارك.
وكانت الدعاوى في المحاكمات الأخيرة، بما فيها آخر محاكمة ضد عيسى، مرفوعة من طرف أفراد يدّعون التصرف بوحيّ من إنشغالهم وقلقهم على المجتمع عموما، بيد أن إنتماءاتهم تضعهم بوضوح في صفّ الحزب الحاكم في مصر. ويمكن لمثل هذه الدعاوى أن تلقى بموجب القانون المصري أحكاما جنائية، ويواجه عيسى ثماني دعاوى من هذه الدعاوى الأهلية.
وإعترافا منها بالأخطار التي يواجهها هؤلاء الصحفيون، أدرجت لجنة حماية الصحفيين في أيار/مايو اسم مصر ضمن قائمة أكثر بلدان العالم تراجعا في مجال حرية الصحافة – وقال رؤساء تحرير 15 صحيفة مصرية بين معارضة ومستقلة إنهم سيتوقفون عن إصدار صحفهم يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر احتجاجا على تنامي حملة التضييق ضد الصحافة.
وغدا عيسى ومعظم الصحفيين الآخرين المستهدفين في المحاكمات الصحفية الأخيرة شوكة في خاصرة نظام تزداد حساسيته إزاء النقد وهو يحضّر، كما تفيد الأنباء، لتسلّم جمال مبارك السلطة من أبيه. ومثلما يحدث في قضية الإشاعات التي راجت حول صحّة حسني مبارك وأوقعت عيسى وزملاءه الآخرين في ورطة، لا أحد يدري حقيقة ما يجري بالفعل.
هل سيتمكن آل مبارك من تنفيذ هذا السيناريو؟ وهل ستقبل القوات المسلحة التي تتمتع بسطوة كبيرة بجمال مبارك كأول رئيس مدني منذ إنقلاب سنة 1952 الذي أطاح بالنظام الملكي في مصر؟
تمثل صحيفة "الدستور’ واحدة من ثمرات محصول جديد من المطبوعات الأهلية المستقلة التي تعجّ بها أكشاك الصحف المصرية ويسعدها أن تسلط أضواءها على سخافة مثل هذه الحيرة في بلد عربي قويّ مثل مصر، وقد كسبت هذه المطبوعات لنفسها حلفاء هاميّن في الكفاح من أجل رفع الخطوط الحمراء التي طوّقت وسائل الإعلام المصرية لزمن طويل.
خلال الانتخابات البرلمانية عام 2005، على سبيل المثال، سرّبت قاضية شابة لصحيفة "المصري اليوم" المستقلة وثائق قالت إنها تثبت أن الحزب الحاكم إنتزع الفوز من مرشح للأخوان المسلمين في دائرة إنتخابية كانت تخضع لمراقبتها وأعطاه لأحد مرشحيه. وصارت صحيفة "المصري اليوم" الآن واحدة من أكثر الصحف شعبية ومصداقية في مصر.
وبعد ذلك التسريب، سارع النظام المصري إلى تقييد صوت القضاة الذين تحدثوا علنا عن تزوير انتخابي، وأمضت السنتين الماضيتين في ملاحقة وتطويق خصومها – بما في ذلك أصحاب المدونات الشخصية في شبكة الإنترنت والناشطين العلمانيين وحركة الإخوان المسلمين المحظورة التي تملك خُمس عدد المقاعد النيابية.
وعلى الرغم من أن النظام لا يتردد في توظيف المحاكم واللجوء إلى ترويع صحفيين وقضاة وغيرهم من الخصوم، إلا أنه بات يواجه مشقات في إسكات صوت القطاع العام الذي يزداد تململا ويضمّ مئات الآلاف من الموظفين الذين يبدو أنهم راحوا يحسّون بقوتهم في إطار ما أسماه بعض المحللين أكبر موجة للإضرابات التي تشهدها مصر منذ أعوام الخمسينات.
وسجّل عام 2006 ما لا يقلّ عن 200 حالة من الإضطرابات العمّالية، بحسب دار الخدمات النقابية والعمالية، وهي منظمة غير حكومية تدافع عن العمال أغلقها النظام في نيسان/أبريل بتهمة إشاعة الإضطراب والبلبلة في صفوف العمال.
وجاء أحدث وأكبر استعراض لقوة العمال في نهاية أيلول/سبتمبر، عندما استولى 27000 عامل وعاملة في أكبر مصانع النسيج في مصر على المصنع طوال أسبوع، في معرض ثاني إضراب لهم خلال فترة تقلّ عن سنة، إحتجاجا على ظروف الأجور والعمل.
ولم تكن مختلف المجموعات المعارضة في مصر قد قادت مثل ذلك العدد المذهل من الأتباع المقتنعين والمعبّئين حتى في ذروة المظاهرات التي إنطلقت ضد الحكومة خلال عام 2005. وأدركت الحكومة هذه الحقيقة وأرسلت ممثليها لتسوية الإضراب الذي تزامن مع تقرير نشره البنك الدولي وأوضح، عن غير قصد، عدم العدالة في محنة القطاع العام وقلة إكتراث الطبقة المصرية الحاكمة بها.
ففي الوقت الذي كان عمال النسيج يشتكون فيه من ضآلة أجورهم التي تتراوح ما بين 43 و57 دولار أمريكيا في الشهر، صنّف البنك الدولي مصر في صدارة إقتصادات العالم الجاذبة للإستثمارات عام 2007، وكان متوسط معدل النمو قد ارتفع إلى نسبة 7 بالمئة خلال الأعوام الثلاثة الماضية بفضل الإصلاحات الاقتصادية الحكومية الجديدة الواسعة النطاق.
لماذا لم يُترجَم ذلك التحسن إلى مستوى عيش أفضل للمواطن المصري المتوسط؟
ومثلما يحدث بالضبط في المسائل المتعلقة بصّحة مبارك والمستقبل السياسي في مصر، ستستمر الصحافة الحرة في المطالبة بالأجوبة لأنها كذلك باتت تتدرك قوتها. وسواء ظلّ عيسى رجلا طليق السراح أم انتهى أمره وراء القضبان في السجن مع ذلك السجين الذي بعث له رسالة مليئة بالأسئلة، فمن المؤكد أن مطالباته بالمحاسبة ستبقى لاذعة كعهدها مثل الأول.
منى الطهاوي صحافية ومعلـّقة مصرية حائزة على عدة جوائز تقيم في نيويورك وتحاضر على صعيد دولي في الشؤون العربية والإسلامية.
للإتصال بكاتبة للمقال: http://www.monaeltahawy.com