أضفى تحديد القضاء شروط يجب توافرها لنقد الشخصية العامة، “ارتياحا عميقا” لدى صحافيين وقانونيين رأوا في القرار “انعتاقا من قيود رافقت مسيرة عملهم على مدى سنوات طويلة لم يكونوا يعرفون خلالها حدود النقد الذي يتمكن الصحافيون من توجيهه لشخصية عامة”.
الشروط مدار الحديث وضعتها محكمة البداية مؤخرا في سابقة هي الأولى من نوعها وتركزت في خمس محددات لنقد الشخصية العامة، هي أن يرد النقد على واقعة ثابتة ومعلومة للجمهور، وان يستند على الواقعة الثابتة، وينحصر فيها، وان تكون الواقعة ذات أهمية اجتماعية، وأن يستعمل الناقد عبارات ملائمة في الحكم أو التعليق على الواقعة، وأن يكون الناقد حسن النية.
ويرى قانونيون أن النقد للمصلحة العامة ينبع من دور الصحافي المهني الذي يندرج ضمن حرية الرأي والتعبير المنصوص عليها في المادة 15/ 1 من الدستور الأردني والتي تنص على أن “حرية الرأي والتعبير مكفولة، ولكل أردني أن يعرب عن رأيه بالقول والكتابة والتصوير وسائر وسائل التعبير بشرط أن لا يتجاوز حدود القانون”.
وحسب هؤلاء، فإن لمهنة الصحافة رسالة راقية كونها باحثة عن الخلل وتعمل على تبيان جوانبه حتى يتسنى للجهات المختصة معالجته والوقوف على أسبابه وهي بهذا المعنى “سلطة رابعة” لها حق النقد من أجل المصلحة العامة.
بيد أن المصلحة العامة لا تتحقق إلا بالبحث الدقيق عن “الخطأ ونشره، فالرأي العام يندرج ضمن الجزاءات التي يمكن فرضها على المسيء، وهو الدور الذي تلعبه الصحافة والرأي العام”، وفق القانونين.
وترجع دراسة قانونية متخصصة نشرت مؤخرا ذلك إلى أن الصحافة تخفي وراء صورتها الظاهرة جهازاً من أدق الأجهزة وأخطرها تأثيرا على الأفراد والجماهير والدول لدورها الفاعل ومشاركتها الكبيرة في صنع الرأي العام.
ويقوم دور ما اعتبرت “قوة ناعمة” على النقد والبحث عن جوانب الخلل وتسليط الضوء عليها، تأكيدا على “حق الشعوب في الاطلاع على الحقيقة كاملة، وسماع الكلمة الصادقة دون تضليل أو اختلاق للحوادث، وهذا هو الواجب الذي يجب أن تقوم به الصحافة لا أن تخفي السلبيات وتعظم الإيجابيات”، وفق الدراسة ذاتها، التي تؤكد أن حق النقد أمر “أساسي ومبدئي”، ويعد أحد أبرز الركائز الأساسية لحرية الصحافة، وبالتالي إذا توفر حق النقد يكون المجتمع إزاء “صحافة حرة مستنيرة قادرة على التركيز على الخلل من أجل تحقيق المصلحة العامة”.
ويمكن استخلاص الحق في النقد من نصوص قانون المطبوعات والنشر، إذ تنص المادة الثالثة من القانون ذاته على أن “الصحافة والطباعة حرتان، وحرية الرأي والتعبير مكفولة لكل أردني وله ان يعرب عن رأيه بحرية بالقول والكتابة والتصوير وغيرها من وسائل التعبير والإعلام”.
ويمكن كذلك استخلاص حق النقد هذا من المادة الرابعة من القانون التي تؤكد على أن الصحافة تمارس مهمتها بحرية في تقديم الأخبار والمعلومات والتعليقات وتسهم في نشر الثقافة والعلوم في حدود القانون وفي إطار الحفاظ على الحريات والحقوق والواجبات العامة واحترام حرية الحياة الخاصة للآخرين وحرمتها، على ما يؤكده مختصون.
وتشمل حرية الصحافة إطلاع المواطن على الأحداث والأفكار والمعلومات في جميع المجالات وإفساح المجال للمواطنين والأحزاب والنقابات والهيئات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية للتعبير عن آرائهم وانجازاتهم وحق الحصول على المعلومات والأخبار والإحصاءات التي تهم المواطنين من مصادرها المختلفة وتحليلها ونشرها والتعليق عليها، وهو ما نصت عليه الفقرات (أ) و (ب) و (ج) من المادة السادسة من القانون.
وبالتالي فإن النقد هو جوهر مهنة الصحافة ودورها الأساسي لما لهذه السلطة من رسالة راقية تنبع من كونها “الحارس الأمين” على حقوق الشعب ولدورها في التنمية وإحقاق الحق وكشف ما قد يصيب العمل في السلطات الثلاث من تشريعية وتنفيذية وقضائية من خلل.
وفي ذلك، يشير أستاذ القانون الجزائي في الجامعة الأردنية وعميد كلية الحقوق السابق فيها الدكتور كامل السعيد إلى أن المادة 198/ 1 من قانون العقوبات الأردني تنص على أن الذم والقدح يكون مشروعا في حالتين وهما صحة واقعة الذم، وأن يعود نشره بالفائدة على المصلحة العامة، وهو ما سنبحثه في هذا المطلب.
ورغم هذا النص الواضح والصريح على جواز النقد للمصلحة العامة، إلا انه لا يوجد نص قانوني في التشريع الأردني حدد فيه المشرع شروط النقد والتي يمكن استنتاجها من نصوص متعددة وردت في قانوني العقوبات والمطبوعات والنشر الأردنيين، حسب ما يؤكده الدكتور السعيد في دراسة قانونية متخصصة له.
ووفق السعيد، فإن حسن النية في النقد ينتفي إذا ثبت أنه لم يكن يستهدف المصلحة العامة أو إذا كان يعتقد بعدم صحة الوقائع التي أسندها إلى من وجه إليه النقد أو إذا كان اعتقاده بصحتها لا يستند إلى تقدير كاف للأمور بل كان ناجما عن طيش وخفة.
إلى ذلك، يقول رئيس تحرير وكالة “عمون” الإخبارية الزميل سمير الحياري إن القضاء بهذا القرار انتصار لعدالة فكرة نقد الشخصية العامة، حيث أراد أن يقدم الصورة المثلى للقضاء الأردني بعدالته وحضاريته.
ويضيف الزميل الحياري إن القضاء قرر بصورة واضحة أن نقد الشخصية مباح وأن التركيز من قبل الصحافة على شبهات الفساد ونعت المسؤولين بالخطأ حال ثبوت ذلك لا يعد جريمة يعاقب عليها القانون كما كان يهيأ للكثير من الصحافيين سابقا.
ويشدد الحياري لـ”الغد” إن المسؤول يجب أن يعي تماما أنه في موقع يجعله عرضة للمسؤولية والانتقاد لذلك وجب عليه أن يتقبل الامر بـ”رحابة صدر” وشفافية عالية دون اللجوء للتهديد والوعيد.
وقال إن هناك الكثير من الشبهات التي دارت حول شخصيات ثم ثبت عدم صحتها، ولم يؤثر على مصداقية هذه الشخصيات بالرغم من نشرها في وسائل الإعلام.
وفي الوقت ذاته أكد الحياري على أن الصحافي أيضا يجب أن يلتزم بحدود مهنته الأدبية والأخلاقية. من جهته، يشير المحامي محمد صافي، المتخصص بقضايا المطبوعات والنشر، إلى أن الدور الصحافي النقدي هو جزء من مهنة الصحافة، كما يعد أحد الوسائل التي يتمكن الصحافي من خلالها التركيز على المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
وتعتبر الشخصية العامة محل نقد دائم مادامت تشغل وظيفة تتعلق بتقديم المصلحة والخدمة العامة للمواطن، وفق صافي الذي قال إنها “بهذه الصفة يجب أن تتقبل النقد البناء طالما أن الهدف الأسمى من قبل الصحيفة هو ممارسة عملها وفق الحدود التي كفلها لها الدستور والقانون”.
من جهته، يرى رئيس مركز حماية وحرية الصحافيين نضال منصور أن قرار محكمة البداية يكرس لملامح واضحة وهو امر يسجل باتجاهين، أولهما وجود قضاة متخصصين يصدرون قرارات تتناسب مع المعايير الدولية لحرية الصحافة وثانيهما وجود محامين متخصصين.
ولفت منصور إلى أن فكرة المحاماة المتخصصة كرسها المركز في وحدة المساعدة القانونية ميلاد، مؤكدا على أن من يقبل بالوظيفة العامة عليه أن يقبل بالنقد البناء الذي توجهه له الصحافة والإعلام حتى لو كان قاسيا أو شديدا عليه.
وبالتالي فإن من لا يريد أن يتعرض لقوارص الكلم فعليه أن يلزم بيته، ولا أن يقبل بالشخصية العامة، حتى لا تنتقده الصحافة، على حد تعبير منصور.