تحتفل هيئة الإذاعة البريطانية (بي.بي.سي) هذا الشهر بالذكرى الـ 75 لتأسيس «الخدمة الدولية»، التي انطلقت في شهر ديسمبر من عام 1932 عندما أسس مدير عام الـ «بي.بي.سي» في ذلك الوقت، اللورد ريث، ما كان يعرف بـ «الخدمة الإمبراطورية» (تحول اسم الخدمة بعد ذلك بسنوات الى «الخدمة الدولية»).
وفي كثير من الأحيان وكثير من المناطق الجغرافية حول العالم، كانت «الخدمة الدولية» الصوت الوحيد المسموع والموثوق، ونحن نتحدث هنا عن فترة لم يكن التلفزيون قد ولد بعد، ولا كانت فكرة الانترنت قد خطرت ببال أحد وربما لو تحدثت عنها في ذلك الوقت لكنت اتهمت بسعة الخيال او حتى الجنون، كما بدأت «الخدمة الدولية» في وقت كانت فيه كثير من الدول لم تؤسس اذاعاتها بعد.
ومع اختراع التلفزيون وبعد ذلك الانترنت، تطورت «الخدمة الدولية» لتشملهما كما هو الحال اليوم وبلغات عدة، وهي حاليا تتحضر لإطلاق قناة إخبارية تلفزيونية عربية وأخرى فارسية، مبدئيا مع مطلع العام المقبل، سيما وان الإذاعة العربية تحتفل بدورها في مطلع شهر يناير بذكرى تأسيسها السبعين.
خلال الـ 75 عاما هذه، مرت الخدمة الدولية في هيئة الإذاعة البريطانية بظروف عدة، فهي كانت هناك لتغطية أحداث عالمية تاريخية، لا سيما الحرب العالمية الثانية، وانتهاء «الإمبراطورية البريطانية» نفسها، وحرب الـ «فولكلاندز» وحروب الخليج واعتداءات 9-11 و 7-7، وغيرها.
ومع مثل هذا التاريخ الحافل، كان لا بد من إعداد وسيلة تسترجع ذكريات الأعوام الـ 75 الماضية، وابرز أحداثها، ولذلك أعدت «بي بي سي» موسما خاصا من البرامج ينطلق في التاسع من شهر ديسمبر الجاري حول هذه القضية، لكن بحسب ما تقول المحررة المسؤولة عن هذا الموسم من البرامج في هيئة الإذاعة البريطانية، سارة بيك، فإن من المحاور الرئيسية لهذا الموسم ليس النظر إلى الخلف، ولكن نحو «مستقبل» الخدمة الدولية.
وبالحديث عن المستقبل، كان لا بد من سؤال سارة بيك ان كانت تتوقع ان تعيش «الخدمة الدولية» لـ 75 عاما أخرى، سيما مع التحديات التقنية والمالية التي يعيشها قطاع الإعلام بشكل عام اليوم. تقول سارة ان هذا الموضوع تحديدا هو من ضمن ما سيناقش على الهواء ضمن برامج الذكرى الـ 75، وتضيف انها تؤمن بأن الخدمة ستعيش لتحتفل بعيدها الـ 150، معتبرة انه طالما هناك طلب للمعلومات، وللمعايير الصحافية التي تلتزم بها «بي بي سي»، فإن وسيلة إيصال هذه المعلومات ليست هي الأساس، مستدلة بـ «توسع» الهيئة البريطانية من مجرد هيئة إذاعة، إلى تلفزيون فانترنت.
لكن ماذا عن التحديات المالية، وعن «تقلص» الميزانيات، هل سيحد ذلك من إمكانيات الخدمة الدولية؟ سارة لا تعتبر ذلك ضروريا، لأنه بحسب وجهة نظرها فإن جمع الأخبار بات يكلف أقل مما كان عليه في السابق. وتضيف موضحة «أنت لم تعد بحاجة إلى طريق إرسال المواد التلفزيونية التقليدية عبر الأقمار الاصطناعية والمكلفة بالضرورة، هناك سبل أخرى تكلف اقل اليوم مثل هاتف الفيديو وطريقة الإرسال اف. تي. بي». إلا ان بيك لا تعتبر ان الأمر سهل بالضرورة كذلك، لأنها تعتبر انه بما أن «الخدمة الدولية» هي دولية، فهي تتعامل مع جماهير مختلفة في انحاء العالم، وليس جمهورا واحدا كما هو الحال مع قنوات «بي بي سي» المحلية.
وبما أن الحديث انتقل الى جماهير «بي بي سي» حول العالم، كان لا بد من السؤال بخصوص التوقعات حول قناتي الهيئة التلفزيونيتين الجديدتين، العربية والفارسية، سيما وان الكثيرين في منطقة الشرق الأوسط يعتبرون الإعلام الغربي منحازا ضد قضاياهم، بغض النظر عن «القيم المهنية» التي تكرر «بي بي سي» دائما الحديث عنها والتي يؤمن آخرون ان الهيئة البريطانية هي من أكثر الملتزمين بها. تجيب سارة بالقول «الناس في الشرق الأوسط يعرفون البي بي سي، فهي ليست إذاعة جديدة تنطلق لأول مرة»، وتضيف «ما أستطيع قوله هو أن هدفنا ليس اقناعا بقيمنا، ولكن نريد الناس ان يشاهدوا قيمنا ومن ثم يستطيعون اتخاذ قرار بأنفسهم، هدفنا الأساسي هو تقديم الدقة والموضوعية دائما وهذا تحد كبير لأنه يكون صعبا في بعض الأحيان».
لكن باعتبار ان القناة التلفزيونية العربية لن تكون ممولة اعلانيا، فلا بد من معرفة كيف سيتم قياس نجاحها، وحول ذلك تعلق بيك «لدينا طرق لقياس المشاهدة وانطباعات المشاهدين»، مضيفة ان الخدمة الدولية والإذاعات والقنوات التابعة لها تتلقى تمويلا محددا من وزارة الخارجية البريطانية، لذلك فهي تحاسب على أدائها في هذا السياق. وهنا تشدد بيك على نقطة وجود هيئة مستقلة لضمان استقلالية البي بي سي، مما يجعلها مختلفة عن الهيئات الاعلامية الممولة حكوميا بحيث يضمن ذلك عدم سيطرة الدولة عليها.
ولعل من ابرز ما يشير الى استقلالية البي بي سي المفترضة، هوالجدل الذي تثيره دائما مع الحكومة، وردا على سؤال حول ان كان هذا الجدل هو ما يميز البي بي سي عن اذاعة «صوت أميركا» (الممولة من قبل الحكومة الأميركية والتي تبث دوليا بلغات مختلفة) مثلا؟ تجيب سارة انها ليست على اطلاع تام على اجندة «صوت اميركا»، لكنها تضيف: الـ«بي بي سي» لا تسعى لاستعراض وجهة نظر الحكومة البريطانية، وانما «تحدي وجهة النظر هذه» بحسب ما تقول بيك.
ومن آخر الأمثلة على ذلك، ازمة «تقرير هوتون» عندما تحدت البي بي سي ملف اسلحة الدمار الشامل العراقية واسباب الحكومة لدعم ذهاب الجيش للقتال في العراق عام 2003، وكذلك تضيف سارة بيك انه أزمة جرت كذلك خلال مرحلة حرب «الفولكلاندز» حين اعتبرت حكومة رئيسة الوزراء في ذلك الوقت، مارغريت ثاتشر، ان تغطية البي بي سي كانت حيادية للغاية في وقت تعيش فيه البلاد حربا، وتضيف «انه من الصعب البث بدقة خلال وقت الحرب، لأن الحصول على المعلومات في وقت الحرب، أصعب عندما تكون بلادك معنية».
من جهة ثانية علمت «الشرق الأوسط» من مصدر في «بي بي سي» ان الاستعدادات جارية لاطلاق القناة التلفزيونية العربية التابعة لـ«بي بي سي» في شهر يناير المقبل، الا ان ذلك لن يتم في الثالث منه، وهو عيد تأسيس الاذاعة العربية السبعين، علما بأن الهيئة البريطانية لم تلتزم بعد بتاريخ اطلاق محدد.