الصحافة ووسائل الإعلام في مصر ، تبدو منهمكة هذه الأيام ، بمعركة "كسر
عظم" ضد "التشيّع" ، تدعمها في ذلك "مشيخة" الأزهر ،
ومروحة واسعة من المدارس والجمعيات والمنتديات السلفية ، فضلا عن جيش صغير من "المؤلفة
قلوبهم" الذين اكتشفوا فجأة أنهم "من أهل الكتاب والسنة" الاقحاح ،
فهبّوا خفافا وثقالا للمنازلة الكبرى ، وهي معركة لا تقتصر ميادينها على مصر وحدها
، بل تكاد تكون عربية (وإسلامية) بامتياز.
على خط موازْ ، تندلع في أروقة القضاء المصري أيضا ، معركة ثانية ، تدور
رحاها حول "حق" المسلم في التحول إلى المسيحية ، بعد أن تلقى مواطن مصري
"المعمودية" في كنيسة أرثوذكسية قبرصية ، صادقت عليه ، وإعادت طقوسه
ومراسيمه ، كنيسة أرثوذكسية مصرية ، في سابقة هي الأولى من نوعها ، وهو اليوم يبحث
عن وسيلة لتثبيت ديانته الجديدة في الخانة المخصصة لذلك على بطاقته الشخصية ، في
الوقت الذي تصب فيه المواقع الالكترونية القبطية المتطرفة والإسلامية المتشددة ،
مزيدا من الزيت على نار هذه المعركة القضائية ـ الشرعية الحامية أصلا.
في المعركتين على حد سواء ، تبرز قضية "حرية الرأي والمعتقد والتعبير"
بوصفها القضية الأساس ، التي لم تحسم بعد في مجتمعاتنا العربية ، وبهذا المعنى فإن
معارك من هذا النوع ، لا تقف عن حدود القطر المصري ، كما أنها لا تتعلق بالتشيع
فقط ، بل و"بالتسنن" أيضا إن جاز التعبير ، وانتقال المسيحي إلى الإسلام
كذلك ، أو تحول المواطن البالغ العاقل الراشد من معتقد إلى آخر.
مشكلات من هذا النوع ، لا حدود لها ، وهي تؤثر مباشرة على حياة قطاعات
واسعة من الناس في الدول العربية والإسلامية ، وتتحكم في صياغة مدونات الأسرة
وقوانين الأحوال الشخصية وقضايا الميراث وحقوق المرأة والطفل وإجراءات الزواج
وأشكاله ووضعياته القانونية المختلفة.
في مسألة الانتقال من ديانة إلى أخرى ، تقدم مدراس الافتاء الإسلامي ،
مروحة واسعة من "الفتاوى" في هذا الشأن ، بعضها يريد إعمال السيف قبل "الاستتابة"
، وبعضها الآخر يعيد إنتاج مفهوم "الردة" وشروطه وأحكامه ، بصورة تجعله
أقرب ما يكون لمفاهيم الدولة المدنية الحديثة ، وما بين هذين الحدين الأقصين ، ثمة
مروحة واسعة من الاجتهادات والفتاوى.
أما الجدل حول التشيع ، أو الانتقال من مذهب إلى مذهب داخل الدين الإسلامي
الواحد ، فإن السياسة تأتي أولا ، ولا تبدو الشريعة حاضرة بتلك القوة ، من دون أن
يعني ذلك أن الدولة والمجتمع هنا ، يبديان تسامحا أكبر ، بل على العكس من ذلك
تماما ، إذ يبدو في بعض الأمكنة والأزمنة ، أن السياسة مقدمة على العقيدة ، وتجاوز
خطوط الأولى الحمراء ، أكثر كلفة من تجاوز خطوط الثانية.
أيا يكن من أمر ، فإن الجواب على أسئلة "حرية الرأي والمعتقد والتعبير"
، لا يكتمل من دون اكتمال أعمدة الدولة المدنية الحديثة ، التي توفر لجميع أبنائها
حقوقا متساوية وتتوقع منهم أداء واجبات متساوية ، لا فرق بينهم في الجنس أو
العقيدة أو الدين ، كما أنها توفر لمواطنيها حرية الرأي والاعتقاد والتعبير ، من
دون خوف من التكفير أو التخوين ، ومن دون الاستمرار بتحسس الرأس والعنق للاطمئنان
على بقائهما في مكانيهما.
المؤسف حقا ، أننا في العالم العربي ، نبدو اليوم ، أبعد عن الدولة المدنية
مما كنا عليه قبل مئة عامْ تقريبا ، زمن النهضة والتنوير ، فيما مجتمعاتنا تبدو
أقل تسامحا وانفتاحا مما كانت عليه قبل أربعة أو خمسة عقود ، الأمر الذي يدفعنا
للاعتقاد بأن مشاكل من هذا النوع ، مرشحة للاستمرار والتفاقم.