اخبار غزة سيئة، واسوأ ما فيها ان تعتقل القوة التنفيذية التابعة لحماس شاعرا، وان ترتفع الهراوات في وجوه الصحافيين والمصورين، كي لا يرى العالم كيف تقمع حماس المصلين في الشوارع العامة.
لا اعتقد ان النقاش السياسي مفيد او يوصل الى اي مكان، في ظل الشعور العام بأن الشكل الذي يتخذه الصراع السياسي في فلسطين صار اشبه بالبهدلة العامة، التي يرافقها اصرار انتحاري على وأد القضية في زواريب الصراع علي سلطة لا سلطة لها.
لكن ان تصل الأمور الى حد اعتقال الشاعر احمد دحبور، والى لحظة تمتهن فيها كرامات الصحافيين والمراسلين، فان هذا يعطينا شعورا بأن ما يجري وصل الى مفترق محزن، وان اصلاح ما افسده الدهر بات اقرب الى المستحيل.
نستطيع ان نعيد جذر هذا الواقع الى الشكل المخجل الذي اتخذه الصراع السياسي بين فتح وحماس، وصولا الى ذروته الدموية في انقلاب غزة. لكننا كنا نعتقد ان القوة التنفيذية التي تهيمن على غزة سوف تكتشف ان العنف العاري لا يوصل الى مكان، وان التراجع عن الخطأ هو كبرى الفضائل. لكن بدلا من ذلك، رأينا كيف قمع الناس في الساحات العامة، وكيف وصل الأمر الى اعتقال قياديين في منظمة التحرير، كي تختتم القوة المسيطرة مآثرها باعتقال شاعر فلسطيني كبير، له في قلوب القراء الفلسطينيين والعرب مكان بناه من عذابات المخيم، ومن صوته المتميز الذي طلع من قلب المعاناة، ومن تلك العلاقة السحرية بين فلسطين ولغة العرب.
لا اعرف اذا كان ضباط القوة التنفيذية وقياداتهم السياسية يعرفون من هو احمد دحبور، او انهم يهتمون بالشعر والنثر او بالثقافة في شكل عام، او انهم سمعوا بأن مواجهة النكبة وآثارها المدمرة تمت اولا في الثقافة، قبل ان تتحول الكلمة سلاحا، وان فلسطين قدمت نموذجا فريدا لعلاقة الثقافة بالنضال الوطني. دم عبدالرحيم محمود عانق دم غسان كنفاني وكمال ناصر، كي تتحول العلاقة بين الثقافة والهوية النضالية الفلسطينية سمة رئيسية صنعت لفلسطين صورتها البهية في الوجدان.
قلت لا اعرف، كي اتلافى الموضوع، لأنني اعرف، والقراء يعرفون ان احد اسباب هذه المحنة هو ان القوي القمعية لا تبالي بالثقافة، بل تحتقر الأدب والفكر، ولا مرجع لها سوى فقهاء الظلام بحسب عنوان احدي روايات سليم بركات.
كانت منظمة التحرير منذ نشأتها، وفي مساراتها المختلفة تعي اهمية الثقافة، لذا كان اول عمل تأسيسي قامت به هو انشاء مركز الابحاث الفلسطيني في بيروت، ولم يجرؤ احد من قياداتها على تحدي المثقفين في شكل سافر.
تغير رئيس اللجنة التنفيذية، ذهب الشقيري وجاء عرفات، لكن مكانة الثقافة التي صنعها مناضلون ومثقفون فلسطينيون لم تتزحزح. صحيح ان العلاقة لم تكن سهلة، لأن السياسي يعتقد دائما انه يستطيع استتباع الثقافي، لكن الثقافة الفلسطينية صمدت امام التحديات، بل كانت الملاذ الاساسي للفكرة الفلسطينية في اوقات التحولات والأزمات.
حتى الصراع بين ادوارد سعيد وياسر عرفات، لم يتخذ شكلا قمعيا، رغم ضراوته، وما التراجع عن منع كتب سعيد في مناطق الحكم الذاتي، وهو منع لم يكن معلنا لأن لا احد امتلك جرأة اعلانه، سوى برهان ساطع على ان احدا، حتى وان كان يملك رمزية ياسر عرفات وسلطته، لم يكن يستطيع تدجين الثقافة او قمعها.
لكنهم اليوم يعتقلون شاعرا، مثلما قاموا بالأمس بسحب كتاب قول يا طير من المدارس، واحراق نسخه، وقد يقدمون غدا على تقليد اساتذتهم المصريين، فيمنعون طه حسين او بندلي الجوزي اومحمود درويش او اميل حبيبي، او من يشاؤون، لأنهم آتون من مكان لا علاقة له بالثقافة الحديثة في فلسطين والمشرق العربي.
لكن المسألة ليست هنا، فأنا لا احاول اقناع احد ببديهية اهمية الادب والثقافة، اذ لن نقبل ان يسقط النقاش الى محاولة البرهان على بديهية البديهي. المسألة انه لا يحق لأحد اعتقال شاعر او كاتب بسبب موقفه او رأيه. انظمة القمع العربية تزج المثقفين في السجون و/او تقتلهم، من ميشال كيلو الى حسين مروة وسمير قصير، لكن في فلسطين لا. فهذا النضال الطويل الذي صنعه الفلسطينيون والفلسطينيات في مختلف الميادين، وخصوصا في الميدان الثقافي، يجب ان يمنع اي يد من ان تمتد الي الثقافة. على حماس ان تعي انها لا تستطيع الاقتراب من هيكل الثقافة، وان الشعب الفلسطيني لن يسمح لأحد بالاعتداء على لغته. لغته كانت وستبقي وطنه المؤقت الى ان يولد الوطن من ركام النكبة. اما الادباء والشعراء الذين صنعوا هذه اللغة ويصنعونها عبر تعميدها بالمعاناة والقهر والدم، فان لا احد يحق له ان يقمعهم.
اعتقال احمد دحبور، حتى وان كان لفترة قصيرة، يجب ان لا يمر. كاتب قصائد الولد الفلسطيني ومغني طائر الوحدات، شاعر واحد وعشرون بحرا، والباحث عن اختلاط الليل بالنهار. ابن المخيم وشاعره، يجد نفسه محاصرا بالاعتقال، ويكتشف ان من يسأله ويحقق معه لا يعرف ان فلسطين كتبت بقلم ابراهيم طوقان قبل ان يكتبها الفدائيون بدمهم، وان ارض البرتقال الحزين ، كانت الاسم الذي اطلقه الروائي على ارضه حين ارادوا تجريد الأرض من اسمها، وان شعراء المقاومة هم روحها وافقها وعلامتها.
انه العار.
عار ان تمتد يد الى ابناء الكلمة.
وعلى الذين اعتقلوا احمد دحبور ان يخجلوا من عيون ابنائهم التي يلتقي نورها بنور الكلمات الطالعة من القلب.