بعد أن هدأ غبار الشائعة التي عاشتها مصر حول صحة الرئيس مبارك .. جاء وقت الحساب ..
والمؤسف والمثير أن كشف حساب الأزمة يتم فتحه الآن في مصر عبر حملة صحفية وإعلامية وقانونية واسعة تتهم الصحف الخاصة والمستقلة بأنها مصدر الشائعة أو على الأقل من روج لها وساهم في إنتشارها .. بينما يتم تجاهل الدور الذي لعبته وتلعبه الصحافة القومية الحكومية في الترويج لهذه الشائعة وعدم التصدي لها.. فمن الناحية المهنية تقع الصحف الحكومية في أخطاء قاتلة تجعلها تتورط من حيث لا تدري في أن تكون طرفا أصيلا في التعامل مع الشائعات وإطلاقها ويجعلها لا تمتلك القدرة على الرد عليها أو تحجيمها .. والصحافة القومية في هذا لا تختلف كثيرا عن الإعلام الحكومي بشكل عام.. ويمكن أن نشير إلى ثلاث نقاط رئيسية تدين الصحافة الحكومية بشكل واضح وصريح.
أولا ..
مانشيتات الصحف الحكومية اليومية وأخبار صفحتها الأولى تدور كل يوم على تتبع أخبار الرئيس وتضخيم كل مقابلة يقوم بها وكل حدث يرتبط به .. وحتى لو كان رئيس الجمهورية يلتقي بسفير جمهورية جزر الموز كإجراء بروتوكولي نجد الصحافة الحكومية تفرد لمثل هذا الخبر صفحاتها الأولى ومانشيتاتها الرئيسية .. ولذلك ولأنها عودت القارئ على ذلك .. يصبح غياب الرئيس عن الصفحة الأولى لأيام متتالية مثار تساؤلات وشائعات تنتشر عند رجل الشارع على النحو الذي رأيناه.
ثانيا :
الصحافة الحكومية تساهم في ترويج بعض الشائعات بطريقة عملية .. فمثلا قضية التوريث وكل ما يتفرع عنها من شائعات .. نجدها على المستوى السياسي المعلن قضية محسومة من خلال تصريحات الرئيس مبارك التي نفى فيها أكثر من مرة كل سيناريوهات التوريث .. وحتى في تصريحات السيد جمال مبارك نفسه الذي لا يظهر في حديث تليفزيوني أو صحفي إلا ويواجه بنفس السؤال ويرد بنفس الإجابة التي تنفي مشروع التوريث بشكل قاطع ..
ومع ذلك فالصحافة الحكومية تصر على أن تفرد للسيد جمال مبارك موقعا محجوزا بشكل شبه يومي في صدر صفحاتها الأولى .. وهو موقع ينافس أحيانا أخبار الرئيس مبارك في الحجم ودرجة الإبراز .. وغالبا ما تتحدث هذه الأخبار عن إجتماع السيد جمال مبارك بوزراء ومحافظين وطلبة الجامعات وتصريحات له تتحدث عن السياسة العامة للدولة وعن إجراءات تنفيذية ليس لمنصبه (كرئيس للجنة السياسات بالحزب الحاكم ) علاقة بها .. هذا النوع من الأخبار كيف يكون وقعه على رجل الشارع العادي الذي إعتاد ألا يقرأ الصحف الحكومية إلا بطريقة (البحث عما بين السطور) .. والرسالة الواضحة الظاهرة بين السطور هي أن السيد جمال مبارك يتجاوز بحجمه الإعلامي قيمة منصبه الرسمي بكثير على صفحات الجرائد القومية .. وبالتالي تساهم الصحف الحكومية بشكل واضح في تدعيم هذا النوع من الشائعات وتكريسها.
ثالثا :
الصحافة الحكومية أصبحت في السنوات الأخيرة منفصلة بشكل فعلي عن هموم الشارع المصري .. وهي تدفع من مصداقيتها ومن أرقام توزيعها يوما بعد يوم ثمنا غاليا لتبنيها الصوت الحكومي في معالجة الأخبار وإنتقائها ونشرها .. فهي تنشر أخبار المسؤولين ولا تنشر هموم المواطنين .. وهي تصر على التعامل مثلا مع جماعة الإخوان المسلمين بمصطلح (المحظورة) .. على عكس ما تفعل الصحف المستقلة .. وتصر الصحف الحكومية على إهمال تغطية قضايا الشارع التي تفرد لها الصحف المستقلة مساحات واسعة مثل قضايا التعذيب والفساد والغلاء والإضرابات والإعتصامات .. فعلى سبيل المثال كانت الصحف المستقلة جميعها طوال الشهرين الماضين لا حديث لها بشكل يومي إلا عن مظاهرات العطش التي جرت في كل مكان على أرض مصر .. كانت التغطيات الإخبارية حية ومدعمة بالصور التي ترصد بحث الناس في ريف مصر وفي المناطق العشوائية عن قطرة مياة نقية غير ملوثة .. هذه القضية نفسها لم تنشر عنها الصحف الحكومية شيئا .. بل وصفها أحد كبار الصحفيين الحكوميين "بالأزمة المزعومة" في عموده اليومي بالصحيفة القومية التي يرأسها .. هذا الإنفصال بين الصحف القومية والشارع جعل تأثير ما تنشره هذه الصحف في الشارع محدودا وجعل مصداقيتها محل شك وجعل قدرتها ضعيفة في الرد على أية شائعة تنتشر في المجتمع.