عندما طالبنا نحن الصحفيين والكتّاب بقانون عصري للصحافة يمنع حبس الصحفي أو الكاتب.. ظن البعض وبعض الظن إثم اننا نسعى لتمييز أنفسنا فقالوا فيما قالوا بيحطون على راسهم ريشة. ويعلم الله أن الصحفي في بلادنا أبعد ما يكون عن الرزة والتميّز والريشة أيضاً.. ولو تعلمون بحاله وحقيقة وضعه المهني؛ لقلتم كفاية عليه ما يعانيه على مدى أربع وعشرين ساعة من مربع الضغط.
فالقارئ وهو أحد أهم أضلاع المربع الضاغط على الصحفي، يريد المعلومات كاملة، والحقائق مستوفاة، والأرقام حاكمة. والمسؤول – وما أكثر المسؤولين هذه الأيام في بلادنا سواء كان مسؤولا حكومياً او مسؤول كتلة نيابية او مسؤول جمعية سياسية او مسؤول مركز شبابي او مسؤول مسجد او مأتم – يصرخ غاضباً ما كل ما يُعرف يُقال، ويشتكيك عند رئيس التحرير ليشكل المسؤولان أداة ضغط يهون الحبس امامها لأنها هذه المرة تتعلق بلقمة العيش، وربما وصلت الامور الى قطع الأرزاق، وقديما قالوا قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق. والصحفي المسكين دايخ السبع دوخات، كل يوم مساءلة وكل يوم لجنة تحقيق، وكل يوم تهديد، وكل واحد ما أعجبه خبر أو تصريح صرخ عالياً باشكتي..!!
لسنا ضد الاحتكام الى القانون والقضاء، فنحن أول من رفع شعار الدفاع عن دولة القانون والمؤسسات، وسنظل كذلك الى آخر قطرة حبر في اقلامنا وفي مطابعنا، وهذه مسألة مبدئية لا مساومة فيها او تنازل ..
ولكن تعالوا نعيش مسألة حبس الصحفي بالعقل والمنطق، حيث تبدو مسألة حبس الصحفي او الكاتب عصية على الفهم، وعلى ان تتسق وتنسجم مع حرية التعبير التي نص عليها الدستور نصا صريحا واضحا، وبالتالي فالرأي يمكن الرد عليه برأي آخر مختلف لتظل المسألة الخلافية في حدودها المعقولة والمقبولة، والقادرة على ان تفتح لنا فضاءات اوسع في حرية التعبير، وان نرتقي بهذه الحرية كلما ارتفع سقفها، ورفعنا سيف الحبس، عن أعناق الكتّاب والصحفيين ورؤساء التحرير.
وفي الدول التي تم فيها رفع مادة حبس وسجن الصحفي او الكاتب لم تخرب الدنيا فيها بقدر ما اصبحت الحرية مسؤولية، ولم تتعرض فيها الذات الإلهية او الذات الملكية او حتى ذوات الاشخاص العاديين للمس غير اللائق، بل إنها على العكس تماما ظلت اكثر صيانة وحماية لأن مفهوم الحرية والمسؤولية لا يفتح باباً للفوضى، وهو مناقض للضغوط والتهديد بالسجن والحبس الذي يقود الى الاحتراب، والى الشتم، والى الخصومة طالما المسائل محكومة بالسجن وعقوبة الحبس، لأن أي أحد، كائناً من كان، ستكون ردة فعله على الحبس والسجن عصبية تنفلت فيها التعابير وتخرج الكلمات والاوصاف عن حدود اللياقة واللباقة التي تمنحها الحرية المسؤولة، وتدفع من يتمتع بها لحماية مساحاتها بالالتزام بكل الكلمات والتعابير والأوصاف والأساليب الحضارية.
ومهم جدا هنا ان نستذكر ونستعيد ونستفيد ونستضيء جميعا بموقف جلالة الملك من مسألة حبس الصحفي التي رفضها جلالته في حديثه مع رؤساء تحرير الصحف المحلية، وهو موقف يحمّل الصحفيين والكتّاب مسؤولية وطنية عظيمة بجانب الدفع بالثقة فيهم وفي رسالتهم، وهو ما نطالب وما نتمنى ان يتفهمه البعض ممن اعتقد ان المسألة تمييز او ريشة على الراس. وفي هذا السياق الذي نتحدث عنه، تأتي توجيهات نائب رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة بعدم حبس الصحفي لأسباب تتعلق بمهنته، ما دفع الصحفيين رأساً إلى تحرير ميثاق شرف يتحملون من خلاله المسؤولية التي حملتهم اياها التوجيهات، بما يعني ان الصحفيين يقدرون المسؤولية والحرية، ولا يبحثون عن ريشة!