كان تلفزيون لبنان (الرسمي) يبثّ على الهواء مباشرة حلقة عن السياحة في مدينة صيدا جنوب لبنان, وإذا بها تتحوّل الى مشاجرة نقطع البث على اثرها. اما التفاصيل فها هي: المكان, استراحة صيدا السياحية, والموضوع حلقة حوارية مع “فعاليات صيدا” عن السياحة في المدينة ومعالمها ومميزاتها. المذيع يسأل مواطناً صيداوياً عمن هدم “فندق صيدون” (السياحي) وكيف تم تهديمه.
مواطن صيداوي آخر لا علاقة له بالحلقة, تثور حميته لإجابات المواطن الاول” فيحضر الى الاستراحة غاضباً جداً, مستنكرا الكلام… يحاول البعض تهدئة “روعه” بعد الذي سمعه بحق من هدم “أوتيل صيدون”… لكن عبثاً. بالقرب من التصوير, يجلس احد ابناء العائلات الصيداوية مع فنانة مخضرمة وعدد من “الفاعليات الأخرى” وشخصيات “إغترابية” واخرى “غير مدنية”. يحاول ابن العائلات هذا المساهمة في التخفيف من حدّة انفعال المواطن الغاضب… وعبثاً ايضاً. فهذا الاخير استدعى “نجدة خارجية”.
يحصل “هرج ومرج” وتضارب يسفر عن سقوط جريح وتوقيف المواطن الغاضب في مخفر الشرطة وخروج الجميع من الاستراحة: طاقم الحلقة والضيوف والفنانة المخضرمة, فيما يحمد الصيداويون ربهم على ان “الإشكال” لم يحصل على الهواء التلفزيوني المباشر… وتخسر الاستراحة يومها لأن “روادها” خرجوا منها هرولةً, من غير ان يسدّدوا فواتير غدائهم.
بعد هذه الحادثة بثلاثة أيام, حصل ما يشبهها. تلفزيون “المنار” يبث حلقة “قضايا الناس” في المنية, شمال لبنان” ثم يضطر الى وقفها قبل 45 دقيقة من الوقت المحدّد لها. فبعدما انهى احد المواطنين مداخلته حول ما اعتبره “تسيّباً” في بعض مدارس المنطقة, اذا به يتعرّض للضرب من قبل اشخاص آخرين معترضين على كلامه وقد رأوا فيه “إساءة” الى المنطقة والى أحد “فعالياتها”.
ولا يلبث “الإشكال” ان يتسع ليشارك فيه آخرون “على خلفية التجاذبات الحادة” التي تختزنها المنية ومحيطها. فيحصل “عِراك” بالأيدي وتقاذف للكراسي بين عدد من افراد الجمهور الذي تجاوز الخمسمئة شخص” كل هذا يجرى بحضور احد نواب الشمال وعدد من رؤساء البلديات و”الفعاليات”. ولا يفلح مقدّم الحلقة في العودة الى الشاشة, من شدّة التوتّر, فينقطع البث…
هذا هو “تلفزيون الواقع” الحقيقي. الذي يستأهل اكثر من غيره من “تلفزيونات الواقع” أن يُذاع على الشاشة. انه الواقع الحقيقي, حيث الصراع الفظ والمضحك… من أجل تلميع صورة تلك الفئة او ذاك الزعيم. واقع له حساباته المفتوحة على كل القواعد, خاصة في هذا الموسم الانتخابي… الصاخب منذ بدايته!
حسابات وصورة أين منها حسابات معدّي برامج وألعاب “تلفزيون الواقع” المعقّمة, المحدودة القواعد, المعدّة سلفاً وشبه المعروفة النتيجة: من “ستار اكاديمي” الى “رحلة الأدغال” الى المصالحات العائلية والإعداد لإنتخابات ملكات الجمال…؟
المحجوب عن نظر المشاهد من “خناقات” ومشاجرات بهدف الحفاظ على نقاء صورة الفئة اوالزعيم, هي التي تستأهل ان تُبثّ… وإلا انحسر “الواقع” التلفزيوني وصار “نظيفاً”, صار تلفزيوناً نظيفاً بعد سينما نظيفة وفنانات نظيفات… صار خالياً من جراثيم الواقع وأهوائه المتوقَّع منها والمُباغِت.
ولو فعلها, لو خصّص التلفزيون للواقع الحيّ غير المجَّمل وغير الكاذب, حيّزاً من شاشته… لوفعلها… لاقترب من وظيفته الجدية: صناعة معاني الواقع عبر وصفه وصفاً صادقا” لا الإعتداد بالمشهدية وحدها التي تصلح أكثر للتشريفات وللوقائع الفنية المتخيّلة. وهذا مما يحيلنا الى السؤال الذي لا بدّ منه: من أين أتينا بمعلومة “الخناقات” حول البرنامجين, طالما ان التلفزيون حجَبها؟
من الصحافة المكتوبة طبعا. وبذلك تنقلب الآية: فبعدما كان التلفزيون يسلّي والصحيفة تبعث على الضجر, ها قد اصبحت الصحيفة المكتوبة هي المسلّية والتلفزيون هو الباعث على الضجر من فرط تنظيفه وتعقيمه.
هذا لا يعني بأن الاول الى أُفول والثانية الى بعث جديد, ولا يعني العكس طبعاً. بل ما بينهما, أو الوقوع ما بين منزلتين: فالشك الذي انتابَ العاملين في الصحافة المكتوبة, منذ بداية انتشار الفضائيات, من جراء انعدام القراءة, والذي أفضى الى هجرة معظمهم للعمل في التلفزيون… ها هو يتلقى رسالة نقيضاً: فعندما تقوم الصحافة المكتوبة بمراقبة الاعلام المرئي, في واجهته كما في كواليسه, فهذا يعني ان أفولها ليس بالقريب, وأن وظيفة أخرى, جليلة, تنتظرها, قوامها ملاحظة أداء الشاشة الصغيرة ومراقبته ونقده… من تغطيتها للحدث الى تخّيلاتها الدرامية.
وهذا ما تفعله تحديدا صفحة “صوت وصورة” اليومية الصادرة عن جريدة “السفير” اللبنانية. شابات وشبان كلهم يقظة ودأب على تغطية التغطيات ومدّها بهوامشها وكواليسها. إنتظامهم اليومي على تجربتهم يستحق التعميم. فهو يكسر إحتكار التلفزيون لصياغة المتخيَّل, الفني منه والواقعي…